حين يسكن الوطن الجرح: اعترافات مهاجر يحمل ظله على كتفه

بقلم: حسن كرياط
ليست الفوضى دائمًا عدوًّا. أحيانًا، حين تشتد الوحشة وتضيق الأزقة بالمعنى، نصير نرعى الفوضى كما لو أنها امتداد لدمنا. نربّت على كتفها كما يُربَّت على جسدٍ منهكٍ بعد معركة طويلة. أتأمل هذا الخراب الساكن في داخلي، لا كشيء دخيل، بل كجسدٍ أول، كجذرٍ ضارب في تربة الوجع. الفوضى لم تعد طارئة في حياتي، بل صارت المأوى، الصيغة الأصلية للكينونة، والنشيد الخافت الذي يسبق ولادة الصوت.
في كل زقاق من ذاكرتي، تهمس الطمأنينة بغيابها. أتنازل عنها طوعًا، أتركها لفئران الحقول علّها تجد فيها دفئًا لم أعثر عليه. لم أعد أحلم ببيت، فالبيوت تخون ساكنيها. ما أبحث عنه أبسط من ذلك… ظلّ لا يخون قامتي، ظلّ لا يحاول أن يصغّرني لألائم جدرانه.
أما البلاد، تلك البلاد التي نحبها حتى وهي تطعن، فهي كالسكاكين عديمة النصل، لا تحتاج إلى حدة كي تجرح، يكفي أن تهمس باسمها لتشعر أن الدم سال في داخلك. هي البلاد التي لا تمنحك سقفًا، بل تُلبسك العراء، وتجعل من صدرك جدرانًا مؤقتة، هشّة، تستسلم لأول ريح. تصير فيها الشوارع جلدك، ووجهك دليلًا عليك، لا لك.
لم يكن الرحيل قرارًا، بل ضرورة روحية. لم أُغادر لأن الأرض ضاقت بي، بل لأن السماء التي وعدتني بالاتساع سقطت ولم تجدني. أجنحتي، تلك التي جمعتها من خزائن الغيم، كانت جميلة، لكنها وُلدت من حلم، والحلم هشّ. كلما حلّقت بها في فضاء لا يعرف اسمي، تكسّرت، كأن الاسم ذاته طوق نجاة لا يُمنح للمجهولين.
في المطارات، أشعر أنني أُخلق من جديد. رقم، بصمة، ختم، ابتسامة مصطنعة. وفي كل عودة، يُمحى اسمي من ذاكرة المكان، كأنني لم أعبره من قبل. الغربة لا تبدأ من الجغرافيا، بل من محو الأثر.
بحثت عن أغنية أختبئ تحت ظلها، أغنية تحميني من هذا العالم المسنّن، لكن كل الأغاني كانت كالشفرات. موسيقاها تشبه حدّ الحلاقة: دقيقة، لامعة، دامية. لا أرتاح فيها، بل أُستنزف.
والوطن؟
ليس علمًا، ولا نشيدًا، ولا خريطة على الجدران. الوطن هو الندبة التي لا تلتئم، هو الجرح الذي لا يسيل لكنه لا يتوقف عن الوجع. هو ذلك السطر الذي سقط من قصيدةٍ عظيمة كتبتها الآلهة ذات شجن، ثم مزقتها في لحظة ندم. نحن نحيا في محاولةٍ دائمة لقراءة ما لم يُكتب، لفهم ما ضاع، لاحتضان ظلّ وطن لم يكن يومًا كاملاً.
ربما الوطن، في آخر الأمر، هو هذا الفراغ النابض فينا، هذا الحنين المُقيم، هذه الرغبة في أن ننتمي، حتى وإن كنا نعرف أن الانتماء صار حلمًا مكسور الأجنحة.