وطنيات

بين رجل السياسة ورجل الدولة أوحينما نقف على مفترق المصلحة و الوطن .

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه التحالفات، تزداد الحاجة إلى التمييز الدقيق بين من يمتهنون السياسة لغاية الوصول إلى للسلطة، ومن يتحملون الصعاب وفاءا للمصلحة العليا للوطن. لنقف على ذاك الفرق بين السياسي ورجل الدولة والذي با يمكن النظر أليع على أساس فرق لغوي ، بل كونه تجسيد لمسافة أخلاقية وسلوكية، تفصل بين من يرى في السلطة غاية، ومن يعتبرها وسيلة لبناء وطن يسع الجميع ويعلو فوق الإصطفافات والحسابات الضيقة.

فإن كان السياسي ذلك الذي لا يرى أبعد من صندوق الاقتراع، و ذلك الذي يتقن لغة الشعارات، ويجيد ركوب الموجات، ويتلون وفق متطلبات المرحلة ،فيهادن حين تفرض المصلحة، ويصعد حين يغريه المكسب، ويغير مواقفه كما يغير معطفه، ما دام ذلك يخدم إستمراره في دائرة النفوذ ، ولعل السياسي الفرنسي كاستون دوميرك كان صادقا حين قال : “نحن وعودنا مجاملات، ولكن الناخبين يعتبرون مجاملاتنا عهودا “.
غير أنه وفي الجانب الآخر من هذا المشهد نجد رجل الدولة، الذي يختار السير على دروب الشوك متحديا كل الصعاب ، ليصدح بالحقيقة ولو كلفه ذلك خسارة موقع أو شعبية، لأنه يدرك أن بناء الدول لا يتم بشعارات براقة، بل برؤية إستراتيجية وتضحية وسمو عن الأهواء والمصالح الضيقة.
ما أحوجنا اليوم إلى رجال سياسة حقيقيين، يعلون من شأن الوطن، ويقودون مشروعا إصلاحيا بعيدا عن نزعة التموقعات الشخصية أو الانتخابية. لقد أظهرت محطات عديدة في التاريخ السياسي للمغرب ، من لحظة التناوب السياسي إلى فصول تدبير جائحة كوفيد-19، أن الفرق بين من يحمل هم الوطن ومن يلهث خلف فتات السلطة، فرق لا تخطئه العين. فحين يعلو صوت الحكمة وتغلب الكفاءة على الولاء الحزبي، تستقيم الأمور، ويستشعر نبض الدولة العميقة، لا بوصفها سلطة خفية، بل كقيمة من قيم الإستمرارية و الحفاظ على المؤسسات.

الرهان اليوم ليس على السياسي الذي يغازل المزاج الشعبي، بل على رجل الدولة الذي يستشرف المآلات، ويتحمل عبء اتخاذ قرارات قد تبدو في ظاهرها قاسية، لكنها في جوهرها صمام أمان للمستقبل. الرهان على من يملك القدرة على مصارحة الناس بالحقيقة، لا من يتفنن في تزييف الواقع وتسويق الوهم.
إن اللحظة الراهنة بما تحمله من تحديات جيوسياسية، وأزمات إجتماعية وإقتصادية متفاقمة، تفرض على النخب السياسية المغربية أن تتحول من طور الحسابات الظرفية إلى طور البناء الاستراتيجي، أن تعيد صياغة السؤال من منطق “كم سنربح؟” إلى منطق “كيف نحفظ الوطن ونضمن العدل والكرامة لأبنائه؟” . فالزمن لا يرحم المترددين، والتاريخ لا يذكر إلا من خدم الشعوب بإخلاص، لا من خانها بتقلباته.
هكذا فقط، سيكتب للتجربة السياسية المغربية أن ترتقي، وللدولة أن تتقوى، وللمجتمع أن يستعيد ثقته في الفعل السياسي. فالمستقبل لا تصنعه كثرة الأحزاب ولا تناوب الوجوه، بل تصنعه الإرادات الصادقة، والعقول الرصينة، والقلوب المفعمة بحب الوطن.

ختاما ، ليتذكر كل سياسي أنه زائل، وأن الوطن باق، وأن المجد لا ينال بالخطب والشعارات البراقة ، بل بالأثر الذي يخلفه المرء حين يغادر المشهد .
فمن كان همه الكرسي ، فهو زائل لايدوم ، أما من جعل الوطن قبلة قراراته، كتب له الخلود .فلنفكر في الأجيال القادمة ،قبل التفكير في صناديق الإقتراع ،فليس هناك أغلى من الوطن …

ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.
خبير في نزاع الصحراء المغربية.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button