Uncategorized

السياسةالخارجية المغربية في عالم متعدد الأقطاب: البرغماتية كخيار سيادي واستراتيجي

✍️ نجيب الأضادي

يشهد العالم منذ سنوات تحولات متسارعة تتجاوز في عمقها مجرد إعادة توزيع القوة أو تبدل التحالفات؛ بل نحن إزاء تشكل بنية دولية جديدة، تنبني على نهاية الأحادية القطبية وبداية مرحلة أكثر تعقيدًا، تتسم بتعدد الأقطاب وتداخل المصالح وتزايد نزعة الاستقلال في القرار السياسي للدول. في هذا السياق، لا يمكن فهم السياسة الخارجية المغربية إلا بوصفها تعبيرًا دقيقًا عن وعي استراتيجي بهذه التحولات، وانخراطًا واعيًا في التوازنات الجيوسياسية الجديدة بمنطق البرغماتية المستند إلى السيادة.

لقد صار من المتجاوز تحليل العلاقات الدولية اليوم بمنظور الحرب الباردة، أو اختزال التموقعات الدولية في ثنائيات تقليدية بين شرق وغرب. فالتحولات التي عرفها العالم، منذ سقوط جدار برلين وأحداث 11 شتنبر، إلى الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الجيوسياسية، تشير إلى نهاية عصر “القطب الواحد” الذي بشّر به فوكوياما، وبروز نماذج جديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي على قاعدة تعددية أكثر توازنًا.

في قلب هذا التحول، يتحرك المغرب بثقة واستباق. فخلافًا لنموذج بعض دول الجوار التي ظلت رهينة خطاب الشرعية التاريخية ومواقف جامدة في السياسة الخارجية، يعتمد المغرب سياسة ذات نفس طويل، مدفوعة بإشراف ملكي مباشر على القضايا الدبلوماسية، ومرتكزة على مبدأ تنويع الشركاء دون تفريط في الثوابت.

الانخراط المغربي في التكتلات الاقتصادية والسياسية الصاعدة – من منظمة شنغهاي للتعاون إلى البريكس، مرورًا برابطة آسيان – ليس مجرد مجازفة ديبلوماسية، بل هو جزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى توسيع مجالات التعاون، وتعزيز مكانة المغرب كفاعل متوسطي إفريقي منفتح على المحيطين: الأطلسي والآسيوي.

ويأتي هذا التوجه في سياق استثماري وسيادي دقيق، حيث بات واضحًا أن التحكم في القطاعات الحيوية مثل الأمن الغذائي والصحي والعسكري، يشكل وجهًا جديدًا للسيادة الوطنية، وهو ما ترجمته السياسات المغربية في التعامل مع الازمات (كوفيد 19-زلزال الحوز -الغاز -القمح ) ، ولاحقًا من خلال شراكات إنتاجية مع قوى آسيوية كالهند والصين.

إن السياسة الخارجية المغربية، إذ تنخرط في عالم متعدد الأقطاب، لا تُبنى على ردود الأفعال، ولا تكتفي برد الاعتبار الرمزي، بل تتحرك ضمن منطق استراتيجي دقيق يُوازن بين المبادئ والمصالح. فتحقيق مكاسب سياسية، كالاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، لا ينفصل عن توسيع قاعدة الشركاء، واستخدام أدوات التأثير الناعمة والاقتصادية في ميدان العلاقات الدولية.

بالموازاة، تراجع عدد من الدول عن دعمها لأطروحات معادية للمغرب، كما هو حال بعض بلدان أمريكا اللاتينية، لا ينفصل عن إدراكها لأهمية المغرب كشريك قارّي ومحور استقرار وتنمية. أما إخفاق الجزائر – الجار الجغرافي والسياسي – في الانضمام إلى تكتل البريكس، فهو أكثر من مجرد حدث دبلوماسي؛ إنه علامة فارقة على تآكل نماذج الدولة الريعية المغلقة، التي عجزت عن تطوير أدوات القوة الناعمة والمرونة البرغماتية في السياسات الخارجية.

إن تنويع المغرب لتحالفاته لا يعني القطيعة مع الغرب، فهو حليف تقليدي للاتحاد الأوروبي وللولايات المتحدة، لكنه في الآن ذاته يرفض الارتهان الأحادي، ويؤمن بحق الدول في اتخاذ قراراتها الخارجية استنادًا إلى مبدأ السيادة والمصلحة العليا، لا على قاعدة الاصطفاف.

وسط التغيرات المتلاحقة، يبدو أن ما يميز الدبلوماسية المغربية اليوم هو قدرتها على قراءة التحولات بدل الارتهان لها، وعلى استثمار الفرص بدل الاكتفاء بتفادي الأزمات. وبين مرونة التموقع واستقلالية القرار، يبني المغرب ببطء ولكن بثقة، موقعه داخل عالم جديد تتشكل ملامحه ببطء، لكنه عالم لن ينتظر من لا يتحرك.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button