حين يعتذر المتفرّج خجلًا: هل مات الضمير الفني؟بقلم: حسن كرياط

في زمنٍ صار فيه جهاز التحكم وسيلة للفرار من مشاهد مُخجلة أو حوارات مبتذلة أو صور تسيء إلى الذوق العام، تبرز بوضوح مأساة الفن المغربي المعاصر. لم يتغيّر المتفرّج، بل الفن هو من نكث عهده الأول: أن يكون مرآة للإنسان، صوتًا لأحلامه وهمومه، وملامحًا لواقعه. حين يضطر المشاهد إلى الاعتذار، لا عن رأي أو فعل، بل لأنه فقط شاهد، فاعلم أن كرامة الفن قد أُهدرت، وأن الشاشات لم تعد تعكس صورة المغرب، بل صارت تشوهه.
لقد غَرِقت القاعات والشاشات المغربية في سيل من الإنتاجات عديمة الروح، مشتتة الرسالة، لا تحمل من الفن إلا اسمه، ولا من الدراما سوى زخرفها، ولا من الواقع سوى شذرات مبتورة تُستَعمل للزينة أكثر مما تُستخدم للتعبير. غابت الروح المغربية، وتوارى الإنسان المغربي، وتحولت الحكايات إلى كاريكاتيرات سطحية لا تثير في النفس إلا السخرية أو الاشمئزاز.
بات الفن عندنا مجرد أداة استهلاكية، خالية من العمق، تُنتج لأجل الإثارة لا الفكرة، ولأجل “الترند” لا المعنى. تولد القصص من فراغ وتعود إليه، شخصياتها بلا حياة، وصراعاتها مفتعلة، ولغتها مُستقاة من قاموس السوق لا من روح المجتمع. أما “الجرأة” فقد تحولت إلى ذريعة للتعري الرمزي والمباشر، في غياب تام لأي حس جمالي أو رصانة فنية.
الحياء العام، الذي كان جزءًا من جمالية التعبير، تلاشى من الأعمال الفنية، وذابت الحدود بين التعبير والتشهير، بين الأداء والإثارة، بين الفن والإباحية المقنّعة. أمام أعين الأطفال والشيوخ، تُعرض مشاهد تسيء إلى الثقافة والذوق، وتخدش الخصوصية داخل البيوت.
هذا الانفصال عن الناس والهروب من الهوية ليس من قبيل المصادفة. ما نُشاهد اليوم ليس فنًّا نابعًا من الأرض، بل إنتاجات هجينة، تستورد القوالب الغربية بلا إدراك لسياقاتها، وتُفرغ الهوية من محتواها. يُقدَّم المغربي في تلك الأعمال ككائن سطحي، تافه، مهووس بالجنس واللهو، في حين يُختصر الفلاح في صورة بدائية، ويُختزل الحي الشعبي في الجريمة والسوقية. هذه الصور ليست عفوية، بل نتيجة خيارات إنتاجية تُدار داخل فقاعة منزوعة القيم، تحاكي الغرب من الخارج، وتخونه من الداخل.
الأزمة التي نعيشها اليوم ليست طارئة، بل تعكس اختلالات عميقة في بنية الإنتاج الفني. فالتكوين شبه غائب، ولا توجد مؤسسات حقيقية لصقل المواهب أو إعداد الكتّاب والمخرجين. المهنة أصبحت بابًا مفتوحًا للمصادفات لا للكفاءات، والدعم المالي يُوزّع بالولاءات لا بالاستحقاق، فتُكافأ الرداءة ويُحاصر الإبداع. أما السؤال الثقافي الأهم: لماذا ننتج؟ لأجل من؟ وبأي رسالة؟ فلا يجد من يطرحه إلا الصمت أو الارتباك.
ورغم هذا السواد، يظل الأمل ممكنًا، شريطة أن تُعلن إرادة ثقافية جديدة تؤمن بأن الفن ليس ترفًا، بل مسؤولية. لا بد من ميثاق وطني يُعيد للفن مكانته كأداة تعبير وهوية وتربية، ويربط الإبداع بالقيم لا بالإثارة. لا معنى لأي دعم لا يخدم الفكرة النبيلة، واللغة الراقية، والرؤية المنسجمة مع ذوق المغاربة. ولا مجال للتكوين إن لم تُشرف عليه أسماء مبدعة، لا مهرجّون مناسباتيون.
لا تطوّر بدون نقد، ولا إبداع بدون مساءلة. يجب أن يُفتح النقاش الجريء حول الفن، بلا مجاملة أو شيطنة، وأن يُستمع للمجتمع الذي لم يعد يجد نفسه في ما يُقدَّم له. فالمغرب غني بحكاياته وشخصياته وتاريخه، من الجبال إلى السهول، من المدن العتيقة إلى قرى الأطلس. فلماذا نبحث عن القصص في الخارج، بينما تُطوى القصص الحقيقية في الداخل؟
الفن أداة لتربية الذوق، وبناء الذاكرة، وصيانة الوعي. حين يُبتذل، يُبتذل المجتمع معه. وما نعيشه اليوم ليس فقط أزمة فنية، بل سقوط أخلاقي وخيانة لرسالة نبيلة. وآن للمجتمع أن يرفض، لا بصمت المتفرّج، بل بصوت المواطن الذي يستحق فنًّا يشبهه.
فهل يحق للفن أن يخجل من جمهوره؟ أم أن الجمهور هو من بات يخجل من فنه؟