Uncategorized

الضجيج في الفضاء العمومي المغربي بين ضوابط النص القانوني وحدود تدخل السلطة الإدارية

يعتبر تنظيم الضجيج في الفضاءات العمومية بالمغرب مسألة شديدة الإرتباط بتقاطع نصوص قانونية متعددة، تجمع بين مقتضيات القانون الجنائي، والنصوص الخاصة بحماية البيئة والصحة العامة، بالإضافة إلى ما يصدر عن السلطات الإدارية من قرارات تنظيمية محلية. هذا التداخل الذي أفرز إطارا قانونيا مرنا لكنه غير موحد مما يمنح مجالا واسعا للسلطة التقديرية في تقدير الأفعال المزعجة وتكييفها وفق الزمان والمكان والسياق الإجتماعي.

غير أن القانون الجنائي المغربي يبقى العمود الفقري للزجر في مجال الضجيج، حيث يجرم الفصل 609 من هذا القانون كل سلوك يحدث عمدا ضوضاء تخل براحة السكان، من قبيل إستعمال الآلات المزعجة أو إطلاق الصراخ أو التسبب في إزعاج متكرر، مع تشديد خاص على الضوضاء الليلية بإعتبارها مسا مباشرا بسكون الليل وراحة الأفراد، وهو ما يبرر طبيعة العقوبة عند تحقق عنصر الليل كظرف مشدد. كما يندرج الضجيج ضمن صور الإخلال بالسكينة العامة، كما نص عليه الفصل 607 من القانون ذاته، متى كان مقلقا للمجتمع أو مهددا للنظام العام.
كما تتوسع دائرة المنع والتجريم لتشمل الضجيج باعتباره ملوثا سمعيا، يخضع لمقتضيات القانون رقم 12.03 المتعلق بدراسة التأثيرات البيئية، حيث يعد عامل الضوضاء أحد العناصر التي يجب التنبؤ بها والتقليص من آثارها في سياق إنجاز المشاريع الصناعية أو الأعمال العمرانية. وفي الاتجاه ذاته، نص القانون رقم 28.00 المتعلق بتدبير النفايات على ضرورة إحترام المعايير البيئية، بما في ذلك المعايير المتعلقة بمستويات الضجيج داخل فضاءات التجميع أو المعالجة أو النقل.
وبالموازاة مع هذه النصوص التشريعية، تتدخل السلطة الإدارية بشكل حاسم في تنظيم الضجيج، من خلال قرارات تنظيمية تصدرها الجماعات الترابية أو الولاة أو العمال، تضع إطارا زمنيا لإستعمال مكبرات الصوت، أو تحديد شروط تنظيم الأنشطة المهنية التي قد تسبب إزعاجا، أو تمنع المظاهر الصاخبة في أوقات محددة، خاصة داخل الأحياء السكنية. وتفعل هذه القرارات من قبل الشرطة الإدارية أو مصالح الأمن الوطني أو الدرك الملكي، بحسب طبيعة المكان ومجال النفوذ الترابي.

ويتضح من خلال القراءة الدقيقة للمقتضيات القانونية والتنظيمية، أن هناك تمييز قانوني واضح بين الضوضاء الليلية وتلك التي تقع خلال النهار، إذ تعد الأولى أشد جسامة وتقابل بعقوبات أشد وتدخل إداري أكثر حزما، لما تمثله من خرق مباشر لسكينة الليل، ما يجعلها في صلب الاهتمام العمومي المتزايد لحماية النظام العام. أما الضجيج النهاري، فرغم إزعاجه المحتمل، يتعامل معه بدرجة من التسامح، خصوصا إذا كان ناشئا عن أنشطة مشروعة مثل الحركة التجارية أو الورشات الصناعية، والتي عادة ما يرخص لها بمزاولة أنشطتها في مناطق مخصصة مثل الأحياء الصناعية. غير أن هذا التسامح لا ينفي إمكانية المعاقبة، حين تقع هذه الأنشطة وسط أحياء سكنية، ويترتب عنها ضرر فعلي موصوف، مما يفتح المجال أمام سلوك مساطر رفع الضرر أو سحب التراخيص الإدارية.
ومن ناحية ضبط المفاهيم المتعلقة بفعل الضوضاء ،فالقانون المغربي لا يتضمن تعريفا صريحا لمفهوم “إزعاج الغير”، إلا أن هذا المفهوم يستنبط من جملة من النصوص، على رأسها الفصل 609 من القانون الجنائي، والفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود، الذي يحمل المسؤولية لكل من ألحق ضررا غير مشروع بالغير. ويفهم الإزعاج قانونا على أنه كل فعل يتجاوز الحد المعقول، ويمس براحة الأشخاص أو حريتهم أو استعمالهم الطبيعي لمساكنهم، متى ترتب عنه ضرر فعلي، سواء كان ماديا أو معنويا. ويخضع هذا التقدير للسلطة التقديرية للقاضي، بحسب طبيعة المكان والزمان وحدود التسامح الاجتماعي.
كما أن بعض التشريعات المقارنة تعتمد على معايير تقنية محددة لمستوى الصوت (كالديسيبل)، فإن القانون المغربي لا يتضمن حدا أقصى صريحا، بل ينظم الضجيج بطريقة غير مباشرة، من خلال إجتهاد الإدارة والقضاء ومرونة النصوص القانونية. كما لا يعتبر إستعمال الموسيقى أو مكبرات الصوت جريمة في حد ذاته، إلا إذا أفضى إلى إخلال فعلي بالسكينة أو انزعاج محسوس للغير، ليكيف آنذاك كجريمة موجبة للعقوبة.

وتختلف العقوبة حسب ظروف ارتكاب الفعل ومكانه، وإن كانت المقتضيات القانونية واحدة. فإذا وقع الضجيج داخل مسكن خاص، وأثبتت المعاينة أنه تجاوز الحد المألوف وأزعج الجيران، كيف الفعل على أساس مقتضيات الفصل 609، مع مراعاة نية الفاعل وظروفه. أما إذا حصل في الفضاء العام، فإن الفعل يعتبر أشد من حيث الخطورة، لتعديه على مجال مشترك، ما يبرر تدخل السلطات والقضاء حينها يحق للمتضرر من الضوضاء أن يسلك عددا من المساطر، سواء بشكاية إدارية لدى السلطة المحلية أو الأمنية، أو عن طريق وكيل الملك. وتباشر المعاينة عادة عبر تحريات ميدانية، وسماع الشهود، وأحيانا عبر قياسات تقنية لمستوى الصوت، لتحديد طبيعة الفعل والخطوات الإجرائية الواجب اتخاذها، من قبيل الإنذار، أو توقيف النشاط، أو المتابعة الجنائية.
وتلعب السلطات المحلية دورا محوريا في ضبط مظاهر الضجيج، خصوصا في الأحياء السكنية، حيث تباشر مهام المراقبة عبر أعوان السلطة أو الشرطة الإدارية، وتسهر على تنفيذ القرارات التنظيمية ذات الصلة. وفي حالات الضرورة، تتدخل بقوة القانون، وقد يصل الأمر إلى إيقاف أعراس أو مناسبات إذا تجاوزت حد المعقول، مستندة في ذلك إلى القانون الجنائي أو القرارات المحلية، خاصة إذا تعلق الأمر بساعات الليل، أو إذا ثبت وجود ضرر فعلي أو شكاية من الساكنة.

ختاما. إن مسألة الضجيج بالمغرب تدار ضمن منظومة قانونية مرنة، تراوح بين التجريم الجنائي والتنظيم الإداري، وبين الإعتبارات الإجتماعية والمعايير البيئية، مما يجعل من الضجيج شأنا عموميا بإمتياز، و يتطلب تكامل الرؤية القانونية مع نجاعة التدخلات للسلطة الترابية، وذلك حرصا على تحقيق التوازن المنشود بين حرية الفعل المشروع وحق الأفراد في الطمأنينة والسكينة والهدوء .

ذ/ الحسين بكار السباعي
محام بهيئة اكادير والعيون مقبول لدى محكمة النقض.
باحث في الهجرة وحقوق الإنسان.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button