المغرب… حين يكون الفن مرآة الحضارة

بقلم: حسن كرياط_ المغرب
الأمم لا تُقاس فقط بما تشيّده من عمران أو بما تحققه من معدلات نمو، بل بما تتركه في وجدان أبنائها من أثر جمالي وفكري وأخلاقي. فالفن، في لحظة صدقه، ليس ترفاً يلهي ولا زينةً عابرة، بل هو مرآة الحضارة وصوت الروح، يصعد بالشعوب إلى حيث يتذوقون الجمال ويصونون القيم.
لكن ما الذي يحدث حين يتحول الفن إلى سوق مفتوح، تُباع فيه الكلمات كما تباع السلع الرخيصة، ويُختزل الإبداع في إيقاعات صاخبة وعبارات مبتذلة، ويُستدرج الشباب إلى عالم بلا بوصلة ولا ذوق؟ أليست تلك بداية الانحدار، حيث تصبح الثقافة أداة تفريغ لا وسيلة بناء، وحيث تتحول المهرجانات من فضاء للارتقاء إلى منصات لإغراق الحسّ الجمعي في العابر والساقط؟
لقد جرّبت البشرية، شرقاً وغرباً، كل أشكال الانقلاب على الأوطان: جيوش تهدم، مؤامرات تنسج، ميليشيات تُزرع، إعلام يضلّل… لكن التجربة الكبرى أثبتت أن أخطر السهام ليست تلك التي تأتي من الخارج، بل التي تخترق من الداخل، فتفسد الذائقة وتشوّه الوجدان وتُفرغ الأسرة من معناها، والشباب من طموحاته.
والمغرب، هذا البلد الممتد بين البحر والصحراء، بين الأندلس وإفريقيا، بين التعدد والانصهار، ليس مجرد قطعة جغرافية، بل هو بيت حضارةٍ له رب يحميه، وله جذور لا تُقتلع. هنا تتكسر المؤامرات، وهنا تصمد القيم الأصيلة التي تشد الأسر إلى توازنها، وتحمي الشباب من الضياع في زحمة العابر والسطحي.
إن ما يُخطط له البعض من تضييع المال العام في مهرجانات لا تُضيف شيئاً سوى الصخب، لا يوازي ما تبنيه الدولة من برامج جادة لتربية النشء على الأخلاق والمعرفة. وكأننا أمام مفارقة صارخة: مدرسة تُغرس فيها قيم الصلاة والوطنية، وفي الخارج ساحة يُغرس فيها اللهو بلا حدود. فإلى أين يُقاد هذا الجيل؟
لسنا ضد الفن، بل نحن في حاجة إليه أكثر من أي وقت مضى. ولكننا نحتاجه فناً راقياً، أصيلاً أو عصرياً أو شبابياً، شرط أن يظل وفياً لدوره النبيل: أن يُمتع دون أن يُفسد، أن يُبهر دون أن يُفرغ، أن يُفرح دون أن يُخرب. فالفن الحقيقي ليس ضجيجاً ولا استهلاكاً، بل هو بناء للروح، وصيانة للذوق، وتجسيد لحضارة أمة تعرف أن المتعة لا تعني الانحطاط، وأن الانفتاح لا يساوي التفاهة.
المغرب، في جوهره، ليس بلداً يلهث وراء اللحظة العابرة، بل هو بلد يكتب تاريخه بما يصمد للأزمنة: قيم، علم، فن رفيع. وما يُراد لنا من ابتذال لن يكون سوى غيمة صيف، سرعان ما تنقشع.
إننا، حين نشجع الفن الراقي، إنما نؤكد أننا شعب يريد أن يعيش الحياة بجمالها، لا بفراغها. نريد أن نفرح، نعم، لكن بفرحٍ يليق بمغرب الحضارة.