Uncategorized

“نافذة من ضوء الروح”


حسن كرياط

في زمنٍ تكسوه الأنانية، وتعلو فيه الضوضاء على أنين القلوب، صار العثور على لحظة دفء إنساني أشبه بالبحث عن زهرة نادرة تنبت وسط صحراء قاحلة. في عالمٍ يركض فيه كلٌّ وراء سعادته، حتى ولو كان ذلك فوق جراح الآخرين، تبهت قيمة العطاء، ويبهت معها وجه الإنسان الحقيقي.

في إحدى دور العجزة، كانت هناك غرفة صغيرة تضيق بأثاثها البسيط لكنها تتّسع بصمتها الثقيل. في تلك الغرفة كان يقيم رجلان مسنان، أكل المرض من جسديهما وأثقل العمر خطواتهما حتى صارت الحركة بالنسبة لهما معركة يخسرانها في كل مرة.

أحدهما كان فراشه ملاصقًا لجدار صامت، أما الآخر فقد وضع سريره بجانب نافذة صغيرة، نافذة تُطل على حديقة الدار، حيث تمتد أشجار الكافور في كبرياء، وتتراقص الأزهار مع نسمات الصباح. كان الرجل الجالس عند النافذة يقضي وقته في وصف ما يراه لصاحبه المقعد إلى الجدار. يخبره عن العصافير التي تزور الشجرة، وعن الأطفال الذين يأتون أحيانًا مع عائلاتهم لزيارة أجدادهم، وعن السماء حين تصفو فتغدو بلون الحلم.

كان صديقه يصغي في صمت، يرسم في خياله المشاهد التي يصفها له الآخر، حتى صار ينتظر تلك اللحظات اليومية كمن ينتظر المطر في موسم جفاف. لم تكن الحكاية حكاية نافذة، بل حكاية روح تزرع الأمل في قلبٍ أنهكه المرض.

وذات صباح، استيقظ الرجل المقعد إلى الجدار فلم يجد صوت صاحبه. علم لاحقًا أن رفيق النافذة قد فارق الحياة ليلتها. شعر بثقل الوحدة يطبق على صدره، لكنه تمسك برغبة عارمة في أن يُنقل إلى سرير النافذة، ليرى بنفسه العالم الذي طالما حكى له عنه صديقه.

حين نقلوه، تطلّع خارج النافذة بشغف طفل يرى الدنيا لأول مرة… لكنه فوجئ أن ما يراه لم يكن سوى جدارٍ رماديٍّ عالٍ، لا حديقة ولا عصافير ولا سماء. حينها أدرك أن صديقه لم يكن يصف ما أمامه، بل كان يرسم له نافذة أمل من خياله، فقط ليخفف عنه وطأة العزلة.

بكى… ليس لأنه خُدع، بل لأنه أدرك أن بعض القلوب تعطي بلا حدود، حتى وهي تغرق في أحزانها.

وهكذا، نتعلم أن أجمل العطاء هو ما يُمنح في الخفاء، وأن أنقى النوافذ هي تلك التي تُطل على قلوب الآخرين لا على مناظر الدنيا. فبعض الأرواح تُزهر في العتمة، فقط لتمنح غيرها ضوءًا يكفيه ليكمل الطريق.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button