Uncategorized

قراءة في زيارة جاكوب زوما و التحول الجذري لموقف حزب “رمح الأمة” الجنوب إفريقي من قضية الصحراء المغربية

في لحظة مفصلية من التغيرات المرتبطة بموازين القوى والتموضع الجغرافي السياسي بالقارة الإفريقية، وفي مخاض إعادة تشكل خرائط الولاء والمواقف داخل القارة السمراء، حلت زيارة الرئيس الجنوب إفريقي السابق جاكوب زوما ضيفا على المملكة المغربية،زيارة بمثابة إعلان عن سقوط رمح مانديلا من رماد الوهم،وإعلان عن موقف غير مسبوق بدعم تنظيمه السياسي الجديد “رمح الأمة” لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، بوصفها الإطار الواقعي والأنسب لتسوية النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء، وضمان لسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية. لم يكن الأمر حدثا عابرا، ولا مجاملة دبلوماسية، بل اختراقا سياسيا عميقا في صلب واحد من أكثر المعاقل صلابة في جبهة الدعم التقليدي لأطروحة الإنفصال.

“رمح الأمة” أو بلغة الزولو Umkhonto we Sizwe ، التنظيم الذي تأسس عام 1961 على يد نيلسون مانديلا ورفاقه، والذي لم يولد من فراغ، بل جاء كرد فعل ثوري على مجزرة شاربفيل وعلى تعنت نظام الأبارتايد، فقد شكل آنذاك الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الإفريقي، وإضطلع بأدوار بطولية في مقاومة التمييز العنصري بجنوب إفريقيا. تنظيم حمل السلاح من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وكان لصيقا بثقافة الكفاح التحرري في القارة الإفريقية. فما تحمله رمزيته من دلالات نضالية جعلت منه مرجعية أخلاقية وسياسية لنخب عديدة داخل القارة السمراء، خصوصا في السياقات التي يطرح فيها خطاب التحرر وتقرير المصير.
لكن اليوم كل شيئ تغير فقد عبر هذا التنظيم السياسي الجنوب إفريقي وعبر زعيمه موقفه الداعم لوحدة المغرب الترابية، موقف يحمل دلالة ليس فقط على المستوى الرمزي، بل أن الزمن الثوري الذي كانت تختبئ وراءه الأطروحات الانفصالية قد إنتهى إلى غير رجعة ، وأن رمح مانديلا لم يعد يوجه نحو أوهام الإنفصال، بل صوب الشرعية الواقعية والسيادة القانونية.
لقد ظل زوما، لعقود، أحد رموز الدعم الجنوب إفريقي لأطروحة بوليساريو، في تناغم مع المحور الجزائري الذي استثمر الكثير في رموز النضال الإفريقي من أجل تسويق النزاع المفتعل على أنه إمتداد لصراع تحرري. لكن التحولات العميقة التي تشهدها إفريقيا اليوم ، من تصدع خطاب اليسار الثوري إلى صعود براغماتية الدولة والمؤسسات، دفعت بالعديد من الشخصيات السياسية الإفريقية الوازنة ، إلى مراجعة مواقفها والتخلص من أوهام دوغمائية كانت تخنق القارة أكثر مما تحررها.

الرباط مدينة الأنوار، التي باتت اليوم عاصمة دبلوماسية إفريقية بإمتياز، لم تكتف بتسجيل إنتصاراتها الديبلوماسية في رصيدها الدولي، بل اتجهت بخطة مدروسة إلى تفكيك جدار الدعم الإفريقي للبوليساريو، من خلال توسيع دوائر الشراكة والتنمية، وتثبيت الحضور الإقتصادي والثقافي، وتقديم مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي و عقلاني، يحظى بقبول دولي واسع. وفي ظل هذا الزخم لم يعد من المستغرب أن تقتنع نخب من عيار الزعيم زوما بأن الإلتزام بالمشروعية الدولية هو تجديد الإيمان بها وفق مقتضيات الزمن السياسي الراهن لا البقاء رهينة لأيديولوجيا بائدة .
إن تحول “رمح الأمة” من دعم الإنفصال إلى دعم الحكم الذاتي ليس مجرد تعديل في خطابه السياسي ، بل إنعطافة إستراتيجية تؤشر على نهاية حقبة إيديولوجية كانت تغذي الإنقسام وتستنزف الشعوب، وتفتح الباب أمام جيل جديد من النخب الإفريقية التي تتبنى المصلحة الجماعية والإستقرار المؤسساتي بديلا عن الشعارات المتجاوزة. إنه إعتراف بأن مشروع الدولة في إفريقيا لا يمكن أن يبنى على كيانات وظيفية ولا على أنصاف الحلول، بل على شرعية التاريخ والسيادة والتنمية.
خطوة جاكوب زوما و”حزب رمح الأمة” ، تحمل في طياتها رسالة موجهة إلى صناع القرار في بريتوريا، مفادها أن الموقف الرسمي لجنوب إفريقيا في حاجة ماسة إلى مراجعة، حتى لا تظل حبيسة سرديات متجاوزة أو رهينة لأساطير الجزائر التي لم تعد تملك القوة الناعمة ولا الشرعية التاريخية للتأثير في محيطها الإفريقي. فجنوب إفريقيا التي حررت نفسها من منظومة الأبارتايد، مدعوة اليوم إلى التحرر من نظام ولاءات لم يعد يخدم المصالح القارية، بل يعيد إنتاج النزاعات و يعرقل التنمية.
إن الرهان المغربي على العقل الإفريقي لم يكن يوما عبتيا، بل إستثمار حكيم في المستقبل المشترك. فالمملكة المغربية لم تغلق بابها في وجه من يراجع مواقفه، لأنها تدرك أن التحولات العميقة لا تبنى على الخصومات، بل على القدرة على الإصغاء والتفاعل مع نبض التاريخ. فدعم “رمح الأمة” لمغربية الصحراء ليس سوى تتويج لمسار واقعي بدأ يأخذ مداه داخل إفريقيا، وينتظر أن يمتد إلى عواصم أخرى طالما تبنت مواقفها من القضية الوطنية بناء على إرث إيديولوجي لا على تقييم واقعي.

ختاما، إن زيارة زوما وإعلانه دعم الحكم الذاتي يمثل لحظة مفصلية في المسار الإفريقي للنزاع حول الصحراء المغربية. لحظة تسقط فيها أقنعة الدعاية، وتنكشف فيها هشاشة الطرح الإنفصالي، في مقابل ترسخ مصداقية الطرح المغربي. وما هذا التحول إلا دليل على أن الشرعية تنتصر دائما، وأن التاريخ لا يخون من يلتزم بالحق والسيادة والكرامة.

ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.
خبير في نزاع الصحراء المغربية.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button