صيف تمازيرت.. موسم العودة إلى الجذور وبعث الذاكرة الجماعية

في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتكالب ضغوط العمل وروتين المدن الكبرى، يظل الصيف بالنسبة لآلاف الأسر المغربية، خاصة المنحدرة من منطقة سوس، نافذة مشرعة على الراحة، وفرصة للعودة إلى الديار والجدور، وإعادة وصل ما انقطع من وشائج القربى والانتماء.
في سوس، يُستقبل الصيف لا كفصل مناخي فحسب، بل كموسم اجتماعي وثقافي وروحي بامتياز. إنه موسم الأعراس واللقاءات العائلية، موسم المواسم والأسواق التقليدية، موسم الفرجة والبهجة وإحياء الذاكرة الجماعية المرتبطة بالمكان والإنسان والوجدان.
الهجرة المعاكسة نحو تمازيرت
مع مطلع يوليوز، تبدأ الهجرة الموسمية المعاكسة من المدن إلى الدواوير، من باريس وبروكسيل إلى أيت باها وتافراوت وتارودانت. يعود مغاربة العالم إلى قراهم الأصلية محملين بالهدايا والتوق للدفء العائلي. يعودون لا للترف، بل للارتواء من منبع الهوية، وتجديد العهد مع الأرض التي أنجبتهم.
في تلك الربوع، لا تزال الطبيعة شاهدة على ماضٍ عريق، ولا تزال الروح الصوفية السوسية حاضرة في الزوايا والمدارس العتيقة، حيث يُحتفى بـ “الموسم” كطقس ديني وثقافي يعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته ومحيطه.
صيف يحتفي بالهوية
الصيف في تمازيرت ليس وقتاً ميتاً. إنه مسرح حي لـ أفراح الأعراس الجماعية، وفضاء لعودة الأعراف والرقصات الشعبية، ومدرسة لتلقين القيم للأجيال الصاعدة، بعيدًا عن تأثيرات التفكك الأسري والتغريب الثقافي.
تُحيي القرى مواسمها الخاصة، حيث تلتقي العائلات بعد سنوات من الغياب، وتنشط الأسواق الأسبوعية، وتُقام العروض الفلكلورية، وتتحول الدواوير إلى قرى نابضة بالحياة، تشهد ولادة جديدة لروح الجماعة والتعاون والتكافل الاجتماعي.
العمق الصوفي والحكمة الشعبية
في خلفية هذا المشهد الصيفي، يبرز البعد الديني الصوفي لسوس العالمة، أرض العلماء والصلحاء، حيث تتقاطع الحكمة الشعبية مع الإرث الديني الوسطي المعتدل. ويعود الكثيرون ليس فقط لزيارة الأهل، بل لزيارة الأضرحة وحضور الليالي الدينية وتلاوة أوراد الزوايا العريقة التي جعلت من سوس مدرسة روحية عابرة للأجيال.
نحو تثمين الصيف القروي
في ظل هذه الدينامية، يطرح الكثير من الفاعلين الثقافيين سؤالاً ملحاً: لماذا لا يتم تثمين هذا الرصيد الصيفي الكبير وجعله جزءاً من السياسات الثقافية والتنموية المحلية؟ فصيف تمازيرت يمكن أن يتحول إلى رافعة اقتصادية وسياحية وثقافية إذا ما تمت مأسسته وتحبيكه ضمن رؤية واضحة تشمل البنية التحتية، ودعم المجتمع المدني، وإحياء التراث اللامادي.
خاتمة:
في زمن يعاني فيه العالم من تفكك المجتمعات واغتراب الأفراد، يبقى صيف تمازيرت حالة فريدة من الوصل مع الأرض، ومع الذاكرة، ومع الذات. إنه موعد سنوي للفرح، لكنه أيضًا فرصة لإعادة الاعتبار لهويتنا المشتركة، ولإعادة تشكيل علاقة المغاربة بمناطقهم الأصلية، ليس كمجرد زائرين، بل كفاعلين في بناء مستقبل أكثر تجذراً وإنصافاً.