حين يُصبح الوطن بيتًا مقدّسًا: قراءة في البُعد القرآني والسياسي لخاتمة خطاب العرش”

حسن كرياط
في لحظة ذات رمزية فريدة، اختار جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، أن يختم خطابه السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش بآية قرآنية من سورة قريش:
“فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” (قريش: 3-4).
هذه الآية لم تأت كزينة بلاغية، ولا كلحظة وجدانية عابرة، بل كانت تتويجًا لمعمار رمزي وروحي عميق، يجمع بين المقدّس والوطني، بين السياسي والديني، في إعادة استحضار وظيفي للدين داخل بنية الدولة المغربية المعاصرة.
في هذا التوظيف القرآني، تتجلى نظرة الملك إلى الدولة ليس كهيكل بيروقراطي مجرد، بل كـ”بيت” يُعبد فيه الله، ويُصان فيه الإنسان، وتُحفظ فيه النعم. فالآية تستحضر ثنائية مركزية في النظرية القرآنية للعمران البشري: الأمن والرزق. وكأن الخطاب يُعيد تذكير الأمة بأن الدولة، في أصل غايتها، هي التي توفر الطمأنينة وتحفظ الكرامة المعيشية، وهو ما يتقاطع مع قوله تعالى في موضع آخر:
“أو لم نمكّن لهم حرمًا آمنًا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا” (القصص: 57).
بهذا المعنى، لا يُفهم الأمن فقط باعتباره استقرارًا أمنيًا، بل بوصفه مناخًا عامًا من السكينة المؤسساتية والثقة الشعبية، ولا يُختزل الرزق في المعاش، بل يُنظر إليه كمعطى شمولي يشمل العدالة الاجتماعية والكرامة الاقتصادية. وهذا ما يجعل الدولة، في الرؤية الملكية، كيانًا أخلاقيًا لا مجرد مقاولة تقنية.
ولعل اللافت في هذه الخاتمة القرآنية أنها تعيد الاعتبار للدين في السياسة لا من مدخل الشعائر، بل من زاوية التأطير القيمي. فالدين في الخطاب لم يُوظَّف كمرجعية خلفية، بل كأفق تشريعي وأخلاقي للسلطة. وهو ما نجده مؤصلًا في قوله تعالى:
“الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر” (الحج: 41)،
حيث تُربط شرعية التمكين بمدى تحقيق مقاصد العدل والخير العام.
ومن جهة أخرى، يعكس الخطاب وعيًا بضرورة ترسيخ الوعي بالشكر كمصدر لاستدامة النعم، وهو وعي قرآني عميق تؤكده آية:
“لئن شكرتم لأزيدنكم” (إبراهيم: 7).
في ضوء هذا التصور، تتأسس فلسفة تنموية لا تنحصر في مؤشرات النمو والإنجازات التقنية، بل تُعيد ترتيب الأولويات وفق منطق أخلاقي–روحي. فالمشاريع الكبرى، رغم رمزيتها التحديثية، تظل غير مكتملة إن لم تُترجم إلى عدالة وكرامة في حياة المواطنين. وهذا ما عبّر عنه ابن خلدون حين قرر أن “العدل أساس الملك”، في إحالة إلى أن العمران لا يُبنى بالحجارة فقط، بل يُشاد على قيم ومقاصد.
وتتجلى المفارقة العميقة في استعمال تعبير “رب هذا البيت”، الذي لا يشير فقط إلى الكعبة كأفق رمزي، بل يمتد ليشمل كل وطن يُراد له أن يكون حرمًا آمنًا، تُدار فيه شؤون الحكم بروح المسؤولية والرعاية، لا بمنطق الربح والخسارة. هنا يظهر الوطن كبيت مقدس، لا كـ”شركة”، وتظهر الدولة كراعٍ لا كمُدير مشروع.
هذا التوظيف المفاهيمي للدين يذكّر بما جاء في فلسفة طه عبد الرحمن، حين أكّد أن السياسة لا تكتمل بدون أخلاق، وأن الدولة لا تكتسب روحها إلا إذا التحمت مؤسساتها بروح الوحي والضمير. فالمؤسسة بلا روح تتحول إلى آلة، والحكم بلا مرجعية روحية يصبح مجرد تدبير ميكانيكي لعلاقات القوة.
من هنا، فإن ختم الخطاب الملكي بتلك الآية القرآنية هو فعل تواصلي عميق الدلالة، يُحمّل الدولة مسؤولياتها الوجودية، ويؤسس لمرحلة جديدة في علاقة المواطن بوطنه، علاقة تتجاوز التعاقد الاجتماعي، لتلامس أفقًا أسمى: التعاقد الأخلاقي والروحي.
وإذا كانت النظم السياسية في العالم المعاصر تجهد في تجديد شرعيتها عبر الأدوات التقنية والدستورية، فإن المغرب، عبر هذا الخطاب، يُقدّم نموذجًا مختلفًا، يستمد شرعيته من التقاء الحكمة السياسية بالهداية القرآنية، ومن مزج السيادة بالعبادة، والقيادة بالشكر، والتنمية بالسكينة.
هكذا، يصبح “ربّ هذا البيت” عنوانًا لوطن يتجاوز المفهوم الترابي، ليصبح وطنًا للمعنى، ومسكنًا للقيم، ومحرابًا للمسؤولية الأخلاقية.