Uncategorized

“تاسليت”: رثاء لعادة أمازيغية في ذاكرة الأجداد… حين كان الزواج قصّة قرية بكاملها

إندوزال – 20 يوليوز 2025

في قرى قبيلة إندوزال النائية، حيث الجبال تُلامس السحاب، وحيث كان الزواج ليس مجرد عقد بين فردين، بل احتفالاً جماعياً يذوب فيه الفرد في بوتقة المجتمع، عاشت “تاسليت” كطقسٍ مدهش يجسّد فلسفة كاملة عن الحياة والعلاقات الإنسانية. اليوم، لم يبقَ منها سوى ذكريات متفرقة يحكيها كبار السن، كحكايات من زمنٍ غابر، حين كان الفراقُ احتفالاً، والبكاءُ لغةً للفرح.

“تنكِيفت”: سيرورة الوداع التي حوّلت العرس إلى مأساة جماعية

كان يوم الزفاف يبدأ بكسوة العروس “الحايك الأبيض”، ليس مجرد لباس، بل درعاً رمزياً يحمل تناقضات المشهد: بياضه يرمز للبدايات، بينما طقوس الوداع المحيطة به تُذكّر بالنهايات. ثم ينطلق الموكب، العروس في القلب، محاطة بنساء العائلة والجارات، وهنّ يرددن أهازيجَ خاصةً تُسمى “أزوان”، كأنها ترانيم وداع للطفولة.

الأمر الأكثر إثارةً هو ذلك البكاء الجماعي الذي يُسمّى محلياً “إيمّي” (الدموع). لم تكن دموعاً مصطنعة، بل تعبيراً عن حزنٍ حقيقي، ليس خوفاً على العروس من مستقبل مجهول، بل لأنها “ستصبح غريبة في دار الغرباء”، كما يردد الأجداد. حتى الرجال كانوا يشاركون، وإن بشكلٍ خافت، في هذا الطقس العاطفي.

لماذا بكى الجميع؟ فلسفة الوداع في ثقافة إندوزال

يقول الحاج “محمد أبركان” (78 عاماً)، أحد حكماء القبيلة:

“كنا نرى في العروس روح القرية كلها، فزواجها لم يكن مجرد انتقال من منزل لآخر، بل كان انفصالاً عن جسد الجماعة. دموعنا كانت تعويذةً ضد النسيان”.

هذه الرؤية تكشف عمق الرمزية في الطقس:

  • البكاء كتطهير: تطهيرٌ عاطفي للجميع من ذكريات الطفولة المشتركة.
  • الفرح المُعلّق: لا يُسمح بالزغاريد إلا بعد وصول العروس إلى بيت الزوج، كأن المجتمع يرفض الاعتراف بالفرح قبل استكمال مراسم الحزن.
  • التضامن كعقيدة: مشاركة كل الساكنة، حتى غير الأقارب، كانت تأكيداً على أن الفرد ملكٌ للجماعة قبل أن يكون لنفسه.

أين ذهبت “تاسليت”؟ سؤال عن زمن البساطة المفقود

مع هجرة الشباب إلى المدن، وانتقال الأفراح إلى صالات الأعراس الفاخرة، حيث تُقاس السعادة ببذخ الديكور وليس بعمق المشاعر، أصبحت “تاسليت” ذكرى يتناقلها كبار السن بينما الأجيال الجديدة تسمع عنها كما تسمع عن أساطير الأولين.

لكن بعض الجمعيات المحلية تحاول إحياء هذه التراث، كما في مهرجان “إيمّي” السنوي بإقليم تيزنيت، حيث يُعاد تمثيل الطقس كفنٍ أدائي. غير أن المشاركين يعترفون:

“الناس الآن تبحث عن المرح السريع، لم نعد نتحمل ثقل المشاعر كما كان الأجداد”.

هل يمكن أن تعود؟

ربما ليس بالشكل القديم، لكن بعض العائلات المتمسكة بالجذور بدأت تُدخل تعديلاتٍ على أعراسها، كتخصيص دقائق للبكاء الجماعي، أو إشراك الجيران في مراسم “التنكِيفت” المصغّرة. قد لا تكون “تاسليت” كما عرفها الأجداد، لكنها تبقى محاولة لإنقاذ ذاكرةٍ ثقافية من الاندثار.

في النهاية، تطرح “تاسليت” سؤالاً وجودياً: هل كنا أكثر إنسانيةً حين كان فرحنا يحمل دموعاً، وحين كان زواجُ فردٍ هو قضية الجميع؟

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button