مجتمع

الحاج بلعيد.. أيقونة “الروايس” الذي صاغ وجدان سوس بالكلمة واللحن

في زمن قلّ فيه المبدعون وندر فيه التميز، خطّ الرايس الحاج بلعيد اسمه بحروف من ذهب في ذاكرة الأغنية الأمازيغية، ليُصبح رمزًا فنّيًا وأبًا روحيا لفن “الروايس”، وصاحب بصمة لا تزال تتردد في البيوت والأسواق والقلوب عبر أجيال متعاقبة.

وُلد الحاج بلعيد في أواخر القرن التاسع عشر، ما بين عامي 1870 و1875، بدوار “آنو ن عدو” بجماعة ويجان شرق تيزنيت. ينتمي لأسرة فقيرة، وتيتم قبل أن يعي معنى اليتم. حرصت والدته على إدخاله “المسيد”، غير أن ضيق ذات اليد دفعها لتوجيهه نحو الرعي، فبدأ العمل راعيًا في منطقة “إيداو باعقيل”، حيث تفتّحت موهبته على أنغام الطبيعة، وبدأت أولى بوادر النبوغ الفني في التشكل داخله.

لم تكن نشأته المحافظة لتثنيه عن ولوجه عالم الغناء، بل كانت محفزة لصقل حسّه الإبداعي، خاصة بعد أن التحق بخدمة الشريف سيدي محمد أوصالح، الذي عرّفه على أسرار العزف والغناء، ليجد نفسه بعد ذلك ضمن أولى مجموعات “الروايس”، قبل أن يستقل بمشروعه الفني ويؤسس مجموعته الخاصة، ممهّدًا الطريق لفن جديد آسر سُمي لاحقًا بـ”ترويسة”.

لم يكن بلعيد فنانًا فحسب، بل كان شاعرًا واعيًا، يراقب مجتمعه ويؤرخ لتحولاته عبر قصائده التي تناولت السياسة والاقتصاد والمقاومة، بحنكة الكلمة ودهاء الرمز. أثار قلق السلطات الاستعمارية بقصيدتيه “سوس” و”أيت بعمران”، اللتين تم منعهما من التداول لما لهما من أثر تحريضي على الروح الوطنية، وبسبب تأثيرهما في صفوف المقاومين، خاصة تحت قيادة عبد الله زاكور.

عرف عن الحاج بلعيد صوته الشجي وعزفه المتمكن وشخصيته القوية، وامتاز بأخلاق رفيعة جعلته محل تقدير الوجهاء والساكنة، على عكس الصورة النمطية للفنان آنذاك. كان ناقدًا لاذعًا لما يراه من مظاهر الفساد والتسلط، لكنه فعل ذلك بلغة رشيقة لا تصدم الذوق، بل تحرك الفكر والمشاعر.

تناول موضوع الغزل في أغانيه بأسلوب رمزي راقٍ، يسمح بتداولها في المجالس العائلية دون حرج. وحين غنّى للحب، فعل ذلك بشفافية الروح ورهافة القلب، فحفظ الناس كلماته، ورددوا ألحانه، وجعلوا من أغانيه جزءًا من ذاكرتهم الجماعية.

امتد عطاؤه الفني لأكثر من خمسين عامًا، قبل أن يسلّم المشعل لابنه محمد بن بلعيد، الذي تابع المسار ذاته، حارسًا لإرث والده، وسفيرًا لفن الروايس الأصيل.

رحل بلعيد، لكنه ترك أرشيفًا خالدا من الأغاني والقصائد، يتغنى بها اليوم كبار فناني “تارايست”، شاهدة على عبقرية رجل اختصر وجدان سوس في مزماره، وجعل من الكلمة لحناً ومن اللحن ذاكرة.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button