رسائل من أمام مقبرة الشهداء بإداوكنيضيف: زيارة العامل الصبتي.. تحويل الرمزية التاريخية إلى التزام تنموي

في منطقة إداوكنيظيف، التي لا تزال تضاريسها تحتفظ بصدى نضالات أجيال مضت، حط عامل إقليم اشتوكة آيت باها، محمد سالم الصبتي، رحاله أمام نصب تذكاري لا يُجسد فقط ذكرى، بل يختزل سردية مقاومة، ويوثق لحظة من لحظات الوجدان الوطني المشترك. زيارة العامل إلى مقبرة شهداء “الجامع أقديم” لم تكن مجرد محطة ضمن برنامج ميداني، بل مثّلت فعلًا رمزيًا بامتياز، تعمّق فيه الحاضر الرسمي في ذاكرة محلية تمثل إحدى ركائز الشرعية التاريخية للدولة. ما بين التراب الذي احتضن دماء الشهداء، واللقاء المباشر مع الساكنة في المجلس الجماعي، كانت الرسالة واضحة: التنمية ليست مسارًا إداريًا فقط، بل هي التزام نابع من جذور الاعتراف والوفاء.
الدولة المغربية، بتاريخها العريق، تقوم على عمق رمزي متين يشكل إحدى ركائز استمراريتها. في هذا السياق، تُعد زيارة مسؤول ترابي إلى موقع مقاوم محطة لاستحضار الشرعية التاريخية، وتعزيز العلاقة العضوية بين الأرض والدولة، وبين الذاكرة والمؤسسات. ما حدث في سوق الجمعة يوم 4 شتنبر 1931، حين استهدفت طائرات الاستعمار الفرنسي تجمعًا مدنيًا عاديًا بقصف دموي، لم يكن حدثًا عابرًا في تاريخ المقاومة، بل كان مجزرة موثقة تستهدف كسر الإرادة الشعبية لا هزم قوة عسكرية. النصب التذكاري الذي يحمل أسماء الشهداء، رجالًا ونساءً، من مختلف دواوير المنطقة، يحوّل السردية إلى خريطة حيّة للوحدة والالتحام القبلي والوطني، ويقدّم الدليل القاطع على أن هذه الأرض قدمت ما يكفي من الدم ليُكتب لها حق المطالبة بالعدالة والإنصاف.
إن ذكر أسماء نساء مثل “المزراك مريم بنت محمد” و”حناش رقية بنت محمد” إلى جانب رجال المقاومة، يكشف أن الاستهداف كان شاملًا، والمشاركة في التضحية كانت جماعية. كما أن التنوع الجغرافي في أسماء الدواوير، من أكرض نتزكا إلى دوتينزار وتانالت، يُبرز بوضوح أن المقاومة لم تكن معزولة ولا محلية، بل تمثل وحدة عضوية شكلت نواة وطنية صلبة في وجه العدوان.
من هذا المنطلق، فإن زيارة عامل الإقليم ليست مجرد تذكار، بل هي إشارة مؤسساتية بأن الرمزية التاريخية لمواقع المقاومة ليست للعرض فقط، بل يجب أن تُستثمر في سياسات عمومية عادلة. فالمجتمعات التي ضحّت لأجل الوطن لا يجب أن تبقى في هوامش التنمية، بل تستحق أن تكون في مركز الاهتمام. وهنا يتضح أن الدولة المغربية، وهي تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز نموذجها التنموي، ما زالت تدرك جيدًا أن الاستثمار في الرموز ليس ترفًا شكليًا، بل هو شرط من شروط تثبيت الشرعية والمشروعية. فالوفاء للشهداء لا يكون بالخطابات وحدها، بل عبر الماء، والطريق، والمدرسة، والمستشفى، والمشاريع التي تُكرم الذاكرة بثمارها الملموسة.
هكذا تتحول زيارة عامل الإقليم إلى لحظة تؤكد أن الدولة المغربية، في بعدها التاريخي، ليست جهازًا إداريًا فقط، بل كياناً رمزياً يحمل في عمقه اعترافًا بالذاكرة، وتحويلًا لها إلى دين تنموي يجب الوفاء به. وفي إداوكنيظيف، بين الشاهد الحجري وعيون الناس، تكرّس فعل سياسي مؤسس على الاحترام، وعلى وعي بأن التنمية لا تنطلق من فراغ، بل من جذور حقيقية اسمها: الشهادة والتضحية والانتماء.