Uncategorized

حين تُبرمج الإنسانية: قراءة في كتاب “الشمولية الرقمية” لأولغا تشيتفيريكوفا


حسن كرياط _ المغرب

في عالم يُعاد تشكيله بهدوء، ليس على وقع المدافع والدبابات، بل تحت وطأة الخوارزميات والمنصات الذكية، تقدم الباحثة الروسية أولغا تشيتفيريكوفا في كتابها المثير للجدل “الشمولية الرقمية.. كيف يتم ذلك في روسيا” تحذيرًا صريحًا من ولادة نظام شمولي جديد. نظام لا يُعلن الحرب، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، ويُعيد تشكيل الإنسان على صورة “كائن قابل للبرمجة”، بلا حرية حقيقية، ولا عمق روحي، ولا خصوصية.

منذ الصفحات الأولى، تضع المؤلفة فرضية جريئة: التحول الرقمي ليس مجرد مسار تقني بريء، بل مشروع أيديولوجي بثوب ديني جديد. لم يعد الدين قائمًا على المبادئ والقيم، بل على الذكاء الاصطناعي، حيث يتحول عمالقة التكنولوجيا كغوغل ومايكروسوفت وأمازون إلى “كهنة” يفرضون نماذج جديدة من التفكير والتنشئة، تعيد صياغة المعرفة والتعليم والمعنى ذاته. في هذا السياق، لا يعود التعليم مساحة للتفكير والنمو، بل ساحة للبرمجة والانضباط، حيث يتحول الطالب إلى هدف لخوارزميات دقيقة، والمدرسة إلى مصنع يُنتج مهارات بلا روح ولا تواصل إنساني.

الكاتبة تستحضر صورة الإنسان الذي يُدار بزرّ واحد، كائن يعيش في قفص ذهبي تُحكمه البيانات لا المبادئ، وتُراقب حركاته من خلال الهوية الرقمية والسجلات الصحية والتعليم المؤتمت. هذه الأدوات، برأيها، ليست مجرد وسائل راحة، بل آليات ضبط دقيقة تُفرغ الإنسان من خصوصيته واختياره.

ورغم أن الكتاب ينطلق من التجربة الروسية، فإن الكاتبة ترى أن روسيا ليست استثناء، بل نموذج داخل مشروع عالمي أكبر. تحذر من التيار التكنوقراطي داخل النظام الروسي الذي يتبنى سياسات المنصات الغربية والبنك الدولي تحت شعار “السيادة الرقمية”، لكنها تعتبره شعارًا أجوف يخفي تبعية عميقة.

هذا المشروع، بحسب تشيتفيريكوفا، يتجاوز الحدود، ويقوده المنتدى الاقتصادي العالمي، والأمم المتحدة، وشركات التكنولوجيا الكبرى. وتربط بين الرقمنة الموحدة، والتعليم المؤتمت، والأنظمة البيومترية، باعتبارها أدوات لمشروع إنساني جديد يُراد له أن يتحكم بمستقبل البشر عبر من يمتلك الشيفرة.

بعيدًا عن الرفض المطلق، تدعو الكاتبة إلى يقظة إنسانية وأخلاقية، ترى أن التقدم لا يجب أن يُفصل عن الإنسان، وأن التكنولوجيا بلا روح تُحوّل الإنسان إلى أداة. تنادي بإعادة النظر في مفاهيم التعليم والسياسة والتقنية، بوصفها سُبلًا لاستعادة كرامة الفرد وموقعه في عالم تتزايد فيه الهيمنة الرقمية.

أولغا تشيتفيريكوفا ليست معارضة تقليدية، بل مفكرة من داخل النظام، تنتمي إلى التيار المحافظ الأرثوذكسي، وتتبنى رؤية سيادية ثقافيًا وأخلاقيًا. لا تدعو إلى إسقاط المؤسسات، بل إلى تحصينها ضد اختراق مفاهيمي يمس التعليم والإدارة والوعي الجمعي. وهي ترى أن مستقبل روسيا لا يُصان بالعسكرة، بل بإحياء المبادرة الثقافية والأخلاقية.

وفي نهاية هذا العمل الفكري اللافت، تطرح الكاتبة سؤالًا لا يغادر ذهن القارئ:
هل نحن مستعدون لتسليم وعي أطفالنا، وخيارات حياتنا، وخريطة مستقبلنا، إلى خوارزميات لا قلب لها؟
إن كتاب “الشمولية الرقمية” ليس مجرد دراسة نقدية، بل بيان إنساني في زمن البرمجة الشاملة.
فمن سيحكم العالم؟ الإنسان… أم الآلة؟

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button