النخب المغربية والدبلوماسية الموازية رهان إستراتيجي في معركة الدفاع عن الصحراء المغربية

.
في زمن إشتد فيه التنافس الجيوسياسي، وتعددت رهانات التأثير في دواليب القرار الدولي، لم تعد قضايا السيادة والوحدة الترابية تحسم فقط في صالونات الوزارات أو خلف كواليس المؤتمرات الدبلوماسية، بل باتت معاركها تخاض كذلك على جبهات الإعلام، وداخل قاعات المحاكم الدولية، وفي أروقة المنظمات غير الحكومية، وعبر تفاعلات الرأي العام العالمي. وفي قلب هذا التحول العميق تبرز قضية الصحراء المغربية بوصفها امتحان لفعالية الدبلوماسية الرسمية، ولذلك لمدى نضج النخب السياسية والمدنية في الإنخراط في معركة ترافعية تتجاوز الشعارات إلى هندسة التأثير الدولي.
لقد أدرك المغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، أن الدفاع عن الصحراء ليس فقط معركة جغرافية أو تاريخية، بل هو نزال حضاري وسياسي ومعرفي، يتطلب نفسا إستراتيجيا طويلا، وعقلانية متزنة وأدوات متعددة المستويات. ومن هنا جاء البناء المتدرج لدبلوماسية رسمية متوازنة تتسم بالحكمة والصلابة، وتجمع بين الواقعية في الموقف والمرونة في الأسلوب لتكرس صورة المغرب كقوة إقليمية صاعدة، ومفاوض مسؤول وشريك يعول عليه في إستقرار المنطقة.
في هذا السياق، حققت المملكة إنتصارات نوعية على المستوى الدولي، منها الاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربية الصحراء، وتزايد تأييد الدول الأوروبية والأفريقية لمبادرة الحكم الذاتي، فضلا عن إفتتاح أكثر من ثلاثين قنصلية عامة بالعيون والداخلة، وهو ما يعد تجسيدا عمليا لإعتراف متزايد بالسيادة المغربية. بل إن قرارات مجلس الأمن نفسها، ومنذ سنة 2007، ما فتئت تثمن الطابع الواقعي والجاد وذي المصداقية لمبادرة الحكم الذاتي، في مقابل أفول أطروحة الانفصال والأساطير التي أسست عليها.
وبالرغم هذا الزخم من الانتصارات الدبلوماسية الرسمية ولما تملكه من كفاءة وخبرة ميدانية ، فلا يمكنها اليوم أن تخوض معركة بهذا الحجم والتعقيد دون سند مدني مواز، ودون تعبئة شاملة للنخب السياسية والنقابية والأكاديمية والإعلامية، لتكون في طليعة الترافع حول القضية الوطنية، داخل الجامعات والمجالس التشريعية، وفي فضاءات النقاش العمومي الدولي.
غير أن واقع الدبلوماسية الموازية في المغرب وبإستثناء بعض المبادرات المشرقة، لا يزال دون ما تقتضيه رهانات المرحلة. فمشهد هذه الديبلوماسية يبدو مشتتا تغلب عليه الفردانية والمناسباتية وضعف التكوين الترافعي الذي يجب أن يكون في مستوى القضية، مشهد يغيب عنه كذلك التنسيق المؤسساتي والوعي العميق بمنطق العلاقات الدولية الحديثة، فالمعركة اليوم لم تعد تكسب فقط بالحق التاريخي أو العاطفة الوطنية، بل تكسب بالبرهان الحقوقي والحجة القانونيةوبالقدرة على التأثير في السردية الإعلامية العالمية، كما قال هنري كيسنجرأحد حكماء الدبلوماسية الدولية: “القوة الحقيقية لا تكمن في القدرة على الإقناع بالعنف، بل في القدرة على التأثير بالعقل والمنطق في عقول الآخرين”.
إن المغرب يزخر بطاقات وكفاءات هائلة،من أساتذة جامعيون مرموقون، وحقوقيون مشهود لهم بالكفاءة، ونقابيون لهم امتدادات عابرة للحدود، وفاعلون جمعويون يحملون قضايا الوطن في قلوبهم، وجالية مغربية مزدهرة في الخارج تضم كوادر وإعلاميين ورجال أعمال وبرلمانيين. لكن كل هذه الإمكانيات ما لم تدمج ضمن خطة إستراتيجية محكمة، فإن أثرها سيظل محدودا وصوتها سيبقى متقطعا لا يرقى إلى مستوى المعركة.
إن الحاجة اليوم ملحة لإرساء مؤسسة وطنية للترافع المدني حول قضية الصحراء المغربية، تتولى تنسيق الجهود وتكوين النخب وإنتاج خطاب متعدد اللغات والوسائط، يمزج بين المعطى القانوني والحقوقي والتنموي، ويعيد تعريف القضية الوطنية في أعين العالم ليس فقط كصراع إقليمي، بل كقضية شعب إختار الوحدة والإستقرار والتنمية، في مواجهة خطاب الانفصال والتجزئة والفوضى.
كما أن من الضروري دعم حضور النخب المغربية في المحافل الدولية، وتمكينها من أدوات التأثير الرقمي والحقوقي، وتعبئة الجاليات المغربية بالخارج ضمن خطة ذكية، تجعل من كل مغربي سفيرا لقضيته أينما وجد، وكما قال كوفي عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة: “المعركة من أجل كسب القلوب والعقول هي الشرط الأول لأي سلام دائم”.
إن الدبلوماسية الموازية ليست ترفا، وليست بديلا عن الرسمية، بل هي عمقها الشعبي والمدني وروحها الحيوية، ونجاحها لا يتأتى إلا بتوافر الإرادة السياسية، والوعي بأهمية الإستثمار في الإنسان والفكر والخطاب.
ختاما، آن الأوان أن ننتقل من مرحلة التفاعل إلى مرحلة الفعل، ومن منطق الدفاع إلى منطق المبادرة، وأن نعيد الإعتبار للقضية الوطنية في قلوب وعقول النخب، لا كشعار سياسي بل كمشروع حضاري وأخلاقي. فالصحراء المغربية ليست فقط أرضا ندافع عنها، بل هي عنوان لمستقبل نراهن عليه، ووعد للأجيال المقبلة بأن المغرب ملكا وشعبا، لا يفرط في حقه أبدا، ولا ينهزم في قضاياه العادلة أبدا، مهما تعددت الأعداء وأشتد مكرهم وسعارهم .
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان
خبير في نزاع الصحراء المغربية.