من المسيرة إلى الوحدة… حين تتحول الذاكرة إلى مشروع وطني متجدد
بقلم: حسن كرياط
ليست المسيرة الخضراء مجرد حدثٍ تاريخي مرّ في ذاكرة المغاربة، بل هي روح وطنية مستمرة، ومشروع حضاري متجدد تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل. فمنذ أن أطلق جلالة الملك الحسن الثاني نداء المسيرة، شكلت تلك اللحظة تحولاً عميقاً في وعي الأمة، إذ أبان المغاربة، ملكاً وشعباً، عن تلاحمٍ استثنائي قلّ نظيره في التاريخ المعاصر.
واليوم، وبعد مرور ما يقارب نصف قرن، يواصل جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ترسيخ مبادئ المسيرة في بعدها الجديد: من تحرير الأرض إلى بناء الإنسان، ومن استرجاع السيادة إلى ترسيخ التنمية والوحدة. إنها انتقالة رمزية من “مسيرة الاسترجاع” إلى “مسيرة الارتقاء”، ومن النضال الترابي إلى النضال التنموي.
إن من يتأمل المسار السياسي للمملكة منذ سنة 1999 يدرك بوضوح أن رؤية الملك محمد السادس تقوم على مفهوم استراتيجي للوحدة، لا يقتصر على المجال الترابي، بل يشمل الوحدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالأقاليم الجنوبية اليوم ليست هامشاً جغرافياً، بل محوراً استراتيجياً في السياسة الوطنية والإفريقية للمغرب. مشاريع البنية التحتية العملاقة، والطاقة المتجددة، والربط القاري مع إفريقيا، كلها عناصر تُترجم فكر الدولة الواحدة ذات الامتداد القاري.
لقد استطاع المغرب، عبر هذه الرؤية، أن يحوّل قضية الصحراء من نزاع سياسي إلى قضية تنموية واقعية، قائمة على منطق الإنجاز والميدان. فالمبادرة المغربية للحكم الذاتي لم تعد ورقة تفاوض فقط، بل أصبحت مشروعاً متكاملاً لبناء نموذج جهوي ناجح يعكس قيم الديمقراطية والحكامة والتنمية.
وفي المقابل، لم تتوقف الدبلوماسية المغربية عن توسيع دائرة الدعم الدولي لهذا المقترح، في إطار دبلوماسية هادئة وذكية يقودها الملك شخصياً، ترتكز على الثقة، والاحترام، والمصداقية، لا على المزايدات أو الخطابات الانفعالية.
من المسيرة إلى الوحدة، ومن الكفاح إلى البناء، تتجلى العبقرية المغربية في قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص، والمحن إلى لحظات نهوض وابتكار. تلك هي فلسفة الدولة المغربية الحديثة كما أرادها الملك محمد السادس: دولة متصالحة مع تاريخها، منفتحة على مستقبلها، راسخة في قيمها.
إن المسيرة الخضراء لم تنتهِ فعلاً سنة 1975، بل بدأت من هناك. بدأت مسيرة أخرى أكثر عمقاً ووعياً، عنوانها العمل المتواصل من أجل مغرب موحد، آمن، ومزدهر. إنها مسيرة وطنٍ يعرف أن وحدته ليست فقط حدوداً تُرسم، بل هوية تُبنى، ومصيرٌ يُصان.




