بين المسيرة الخضراء والمسيرة الكحلة: دروس في الأخلاق والتاريخ
في مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر، يستحضر المغاربة من طنجة إلى الكويرة ذكرى خالدة في وجدان الأمة: المسيرة الخضراء المظفرة، التي أطلقها جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه سنة 1975، لاسترجاع أقاليمنا الجنوبية بطريقة سلمية، عبّرت عن عبقرية سياسية نادرة وحكمة ملكية راقية.
كانت المسيرة الخضراء نموذجًا فريدًا في التاريخ المعاصر، لأنها جمعت بين الإيمان والعقل والسياسة والأخلاق، وعبّرت عن وحدة الشعب والعرش في أسمى صورها. فقد لبّى أكثر من 350 ألف مغربي نداء الوطن، حاملين المصاحف والأعلام، دون سلاح أو عنف، ليسجّلوا للعالم أن المغرب لا يُحرّر أرضه إلا بالسلم والإيمان.
وفي المقابل، لا يمكن أن نغفل الوجه الآخر من التاريخ، الذي جسّدته ما يسميه المغاربة بـ “المسيرة الكحلة”، تلك التي قادها النظام الجزائري بقيادة هواري بومدين (بوخروبة)، عندما قرّر سنة 1975 طرد عشرات الآلاف من المغاربة المقيمين في الجزائر، في خطوة وُصفت آنذاك بأنها لا إنسانية، جاءت كردّ فعل انتقامي على نجاح المسيرة الخضراء.
تلك المسيرة السوداء حملت الألم والمرارة لآلاف الأسر المغربية التي فُصلت عن ذويها، في خرق صارخ لكل القيم الدينية والإنسانية، وأثبتت للعالم الفرق بين من يبني بالحكمة، ومن يهدم بالحقد.
ومع مرور السنين، ظلّ التاريخ شاهدًا على الفرق بين أخلاق الملوك وحكمة القادة الحقيقيين، وبين نزوات الحكام المتسلطين الذين جعلوا من الكراهية سياسة ومن الإخوة عداءً.
لقد انتصرت المسيرة الخضراء لأنها وُلدت من رحم الإيمان والوحدة الوطنية، وانهزمت المسيرة الكحلة لأنها بُنيت على الغدر والعدوان.
اليوم، وبعد مرور نصف قرن، تبقى المسيرة الخضراء رمزًا خالدًا في ذاكرة المغاربة، ودليلًا على أن الحق ينتصر مهما طال الزمن، وأن الأخلاق والعدل والسياسة الرشيدة هي التي تصنع التاريخ الحقيقي، لا المؤامرات ولا الأحقاد.




