Uncategorized

الحكم الذاتي بالمغرب: من منطق إدارة النزاع إلى إعادة هندسة الدولة

بقلم: حسن كرياط

يبدو أن الحكم الذاتي في الحالة المغربية لم يعد مجرد مقترح سياسي ظرفي موجَّه لتسوية نزاع إقليمي، بل يتطور تدريجياً نحو تصوّر بنيوي جديد للدولة، يعيد طرح سؤال توزيع السلطة داخل النظام الدستوري المغربي على أساس متقدم يتجاوز منطق اللامركزية الإدارية إلى منطق الدولة متعددة المستويات (État multiniveau). فالمبادرة المغربية لسنة 2007 لم تُصمم فقط كحل تفاوضي، بل كتصور مؤسساتي قابل للتحول إلى صيغة دستورية ناظمة، كلما نضجت شروط التمكين القانوني والسياسي والجهوي.

إن اللحظة السياسية الراهنة، في ظل ما تحققه الدبلوماسية المغربية من اعترافات ودعم متزايد لمقترح الحكم الذاتي، تفرض الانتقال من الطابع البراغماتي للمشروع إلى التأسيس المعياري (Normativité)، وهو ما يستدعي التفكير في ترتيبات دستورية دقيقة تستوعب هذا النموذج داخل بنية الدولة الموحدة، دون فرض قطيعة دستورية، ولكن عبر تطوير محكوم بمنطق الاستمرارية المؤسسية.

فمنذ دستور 2011، أصبح التنظيم الترابي يقوم على الجهوية المتقدمة باعتبارها قاعدة معيارية لتوزيع السلط، وهو ما يسمح بالانتقال من اللامركزية الوظيفية إلى اللامركزية السياسية، دون المساس بالمبدأ السيادي للدولة. فالجسور المفاهيمية بين الجهوية المتقدمة والحكم الذاتي قائمة، غير أنها تحتاج إلى تأطير أكثر وضوحاً، سواء عبر تعديل دستوري مباشر، أو عبر نظام أساسي خاص بالقانون التنظيمي، أو عبر مسار تدرجي مبني على نموذج «الجهة ذات الوضع الخاص».

من المنظور المقارن، تكشف التجارب الدولية أن وحدة الدولة لا تتعارض مع وجود نظم ذاتية الحكم، بل يمكن أن تتحول إلى مصدر قوة ومرونة مؤسسية، كما يظهر في إسبانيا، وإيطاليا، وحتى فرنسا بعد دستور 2003. وفي جميع هذه التجارب، شكل الحكم الذاتي آلية للحفاظ على الوحدة عبر الاعتراف بالخصوصية، وليس آلية لتفكيك الدولة، مما يجعل الفكرة الجوهرية في التجربة المغربية ليست تقليص سلطة المركز بل توسيع مفهوم السيادة المشتركة داخل الدولة الواحدة.

غير أن دسترة الحكم الذاتي ليست مجرد عملية تقنية أو إضافة بنيوية لنصوص الدستور، بل تتطلب تفكيراً في أربعة مستويات مترابطة:

_ المستوى السيادي: تأكيد أن الحكم الذاتي يُمارس داخل سيادة موحدة وغير قابلة للتجزيء، وأن البرلمان الوطني يظل المرجعية التشريعية العليا.
_ المستوى المؤسسي: ضمان الانسجام بين المؤسسات الوطنية والمحلية عبر آليات التنسيق القضائي والتشريعي والمالي، تفادياً لازدواجية الأنظمة.
_ المستوى الاقتصادي: تحويل الحكم الذاتي إلى نموذج تنموي قائم على الاستثمار المحلي والاندماج الجهوي في الاقتصاد الوطني.
_ المستوى الثقافي والسياسي: تعزيز قبول المجتمع المحلي والوطني للحكم الذاتي باعتباره نموذجاً مشتركاً للاندماج، لا امتيازاً ترابياً.

فالحكم الذاتي، في جوهره، ليس إعادة توزيع للاختصاصات فقط، بل إعادة صياغة للعقد السياسي الوطني بما يضمن دمقرطة السلطة وتقاسم المسؤولية وإنتاج نخب سياسية وإدارية محلية قادرة على تطوير نموذج تنموي جهوي مستقل في قراره، مرتبط في شرعيته بالدولة المركزية، ومنسجم مع الشرعية الدولية.

وفي هذا السياق، يصبح التحدي الأكبر ليس في صياغة النص الدستوري، بل في ضمان فاعلية النموذج بعد دسترته، أي الانتقال من المنطق الشكلي إلى المنطق الوظيفي. فالنجاح لن يُقاس بوجود مادة دستورية جديدة، بل بقدرة النموذج الذاتي على تحقيق الاندماج الوطني، والتنمية الاقتصادية، والاستقرار المؤسساتي، وتحصين السيادة المغربية في بعدها الجيو-استراتيجي.

ختاماً، يمكن القول إن المغرب يقف أمام محطة تأسيسية في مسار تطور دولته، حيث يمر من دولة ذات مركزية تاريخية قوية إلى دولة قادرة على هندسة سلطات جديدة وفق منطق السيادة الذكية (Souveraineté intelligente)، التي تقوم على تقاسم السلطة لا تفويضها، واستيعاب التعدد لا إدارته فقط. وهكذا يتحول الحكم الذاتي من حل سياسي لملف إقليمي إلى غرفة عمليات دستورية تعيد تشكيل الدولة المغربية بوعي استراتيجي وتفكير مستقبلي.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button